في محاولة لتحسين وضعها على مؤشر شفافية الموازنة الذي يصدر كل عامين على مستوى مجموعة كبيرة من دول العالم، اتجهت السعودية لإصدار ما يسمى بـ “موازنة المواطن”، ولكن نسي متخذ القرار السعودي أن “موازنة المواطن” ليست مجرد إعلام المواطن بمجموعة أرقام ومستهدفات عن ميزانية العام القادم.
ولكن حتى تسمي “موازنة المواطن” بشكل حقيقي، فلابد أن يشارك المواطن في إعدادها والتخطيط لها ومراقبتها، ومع الأسف فهذا لم يتم في تاريخ المملكة العربية السعودية منذ نشأتها، وهذا ما يضعها على مؤشر شفافية الموازنة في ذيل قائمة الدول.
فالأرقام المنشورة على موقع وزارة المالية السعودية والخاصة بـ “موازنة المواطن” لعام 2020، تحمل صورة سلبية -على الرغم من إمكانية تغيرها عند إصدار الميزانية الحقيقية-، من حيث تراجع قيمة الإيرادات والنفقات وتزايد قيمة الدين العام، وكذلك ارتفاع معدلات التضخم.
وكل هذه المؤشرات كفيلة بتصدير صورة سلبية عن واقع الاقتصاد السعودي، ومناخ الاستثمار به، فحسب أرقام وزارة المالية السعودية، والمنشورة على موقعها، يتوقع أن تتراجع الإيرادات العامة من 917 مليار ريال (244 مليار دولار) إلى 833 مليار ريال (222 مليار دولار)، أي أن القيمة المنتظرة للتراجع في الإيرادات العامة تقدر بـ 84 مليار ريال، وبما يمثل 9.1%.
أما النفقات فيتوقع لها أن تتراجع أيضًا في عام 2020 إلى 1020 مليار ريال (272 مليار دولار) بعد أن كانت في 2019 نحو 1048 مليار ريال (279 مليار دولار)، أي أن قيمة التراجع في النفقات العامة يتوقع أن تكون 28 مليار ريال، وبما يمثل نسبة 2.6%.
وكان المأمول أنه في ظل التوسع في الدين العام، أن تتزايد النفقات العامة، إن لم تبق على ما هي عليه في عام 2019، من أجل المحافظة على حالة من النشاط الاقتصادي، الذي يصدر الأمل لمجتمع الأعمال، ويحسن من مستوى معيشة المواطن.
وتعكس الأرقام المعلنة وجود عجز بين الإيرادات والنفقات بالميزانية السعودية في 2020 تقدر قيمته بنحو 187 مليار ريال، وهو ما سيتم تمويله عبر الديون، والتي من المقدر لها أن تزيد خلال العام القادم لتصل إلى 754 مليار ريال مقارنة بـ 687 مليار ريال، أي ان هناك زيادة منتظرة في الدين العام السعودي بنحو 67 مليار ريال.
يعكس تراجع النفقات العامة بالسعودية خلال العام القادم، حالة من التشاؤم بخصوص الوضع الاقتصادي، فتراجع الانفاق العام، يعني استمرار حالة الانكماش التي يعيشها الاقتصاد السعودي، وسيؤدي ذلك بلا شك إلى تقليص فرص العمل، وهو ما يقوض طموحات الحكومة السعودية ورؤية 2030 بإتاحة المزيد من فرص العمل للمواطنين السعوديين، ومن المتوقع أن يؤدي ذلك أيضًا إلى التوقف عن الدخول في مشروعات عامة جديدة، أو استكمال المشروعات التي توقفت خلال السنوات الماضية.
كما تؤكد الأرقام الخاصة بتراجع الإيرادات العامة، استمرار وقوع الاقتصاد السعودي تحت وطأة تقلبات سوق النفط الدولية، وأن الحديث عن الصندوق السيادي العملاق، أو الدخول في برامج خصخصة -والتي بدأت بشركة أرامكو- لم تفلح في تمويل الميزانية السعودية ليكون لها إنفاق توسعي يعمل على إحداث حالة من الانتعاش، لحين عودة الإيرادات النفطية إلى طبيعتها.
كما أن الميزانية السعودية سوف تظل تعاني من تراجع إيراداتها وزيادة العجز والاعتماد على الديون، في ظل تقدير صندوق النقد الدولي، بأن وضع توازن الميزانية السعودية يتطلب أن يصل سعر برميل النفط إلى 71 دولارا، وهو وضع غير متحقق الآن في ظل خضوع سوف النفط لتوازنات دولية، خارج نطاق سيطرة أو مساهمة الحكومة السعودية، أو حتى منظمة “أوبك” برمتها.
تبقى الميزانية السعودية أسيرة أمراضها المزمنة، والتي يتبلور أهم بنودها في غياب مشاركة مجتمع الاعمال والمجتمع الأهلي في التخطيط لها ومراقبتها، ونظرًا لغياب وجود مجلس تشريعي منتخب في السعودية، فلا يمارس مجلس الشورى الحالي هناك اي دور رقابي على الميزانية.
ونظرًا لذلك لا تتمتع الميزانية السعودية بالشفافية اللازمة، فحديث وزارة المالية عن مكونات الإيرادات على أنها إيرادات ضريبية وإيرادات أخرى، أمر يحتاج إلى تفصيل فالإيرادات الأخرى من المفترض أن تتضمن الإيرادات النفطية، وكذلك العائد من عمليات الخصخصة المستهدفة، وكذلك عوائد الصناديق السيادية السعودية، والتي تمثل ما يمكن أن نطلق عليه “الصناديق السوداء”، فما يتم نشره عن أصولها الرأسمالية، لا يخرج من المؤسسات السعودية، ولكن يأتي من خلال مؤسسة دولية معنية بالصناديق السيادية على مستوى العالم.
بطبيعة الحال، وفي ضوء ما يسميه المصريون “تستيف الأوراق” تضمنت موازنة المواطن الحديث عن برامج الحماية الاجتماعية، وكفاءة الإنفاق العام، وتشجيع القطاع الخاص، وتمت الإشارة إلى عدد من المبادرات في هذه البنود، وحقيقية الأمر، أن هذه الأمور بلا مردود على الاقتصاد والمجتمع السعودي.
فهذه اللافتات أتت ضمن متطلبات تقرير صندوق النقد الدولي في عام 2015، ودخلت حيز التنفيذ في 2017، ولم يجد الموطن السعودي لها مردودًا على مستوى معيشته. ففي ظل هذه المبادرات في المجالات المختلفة، وما يعلن من برامج رؤية 2030، زاد فقر السعوديين، حتى إن نسبة تقترب من 63% من المواطنين السعوديين، تقدموا للحصول على دعم “صندوق حساب المواطن” والذي يقدم دعمًا شهريًا للأسرة بحدود ألف ريال كحد أقصى، لمواجهة الآثار السلبية الناتجة عن الإجراءات التقشفية التي طبقتها الحكومة. هذا بخلاف المستفيدين من برامج الضمان الاجتماعي.
في الختام، ستظل الميزانية السعودية، مجرد شكل إجرائي، لا يعني المواطن السعودي منها شيء، طالما تنفرد الحكومة بإعدادها دون مشاركة مجتمعية، وفي ظل غياب الرقابة والمساءلة، عن كفاءة الإيرادات المالية في الدولة السعودية، وكذلك أوجه الإنفاق.